هديه صلى الله عليه وسلم في الصوم
بسم الله الرحمن الرحيم
ثلاثون درساً للصائمين
عائض بن عبدالله القرني
الإهداء
إلى كل صائم قائم .. إلى الذين ذبلت شفاههم من الصيام.
وجفت أكبادهم من الظمأ .. وخمصت بطونهم من الجوع.
إلى من صام رمضان إيماناً واحتساباً أُهدي هذي الكتاب.
عائض
* المقدمة:
- الحمد لله الملك القدوس السلام ، ذي الطول والعزة والإكرام ، هدانا للإسلام ، وشرفنا بالصلاة والصيام.
والصلاة والسلام على إمام المرسلين وخيرة المصلين وعلى آله وصحبه والتابعين وبعد.
فهذا كتاب "دروس للصائمين" جمعت فيه من الآيات أوقعها ، ومن الأحاديث أصحها ، ومن الأبيات أعذبها ، ومن المواعظ أرقها ، فهو كتاب للصالحين في مجالس السمر وللمتنقلين في منازل الأسفار ، وللأحباب في النزهات ، وللوعاظ في المحاضرات ، ولعل الأستاذ أن يستفيد منه ، والخطيب أن يعرج عليه وإمام المسجد أن يقرأ فيه.
* جعلت من مقاصد هذا الكتاب أمورا ثلاثة:
أولها: توثيق مواعظه ورقائقه بآيات الكتاب العزيز والسنة الصحيحة الثابتة فلا أورد حديثا ضعيفا أبدا ولا قصة واهية ولا أثرا مستغربا.
ثانيها: قصدت به غرس الإيمان في النفوس وبناء اليقين في القلوب ، وما قصدت جمع المسائل الفقهية إذ كفاني في هذه المهمة الفضلاء فأثروا بما كتبوا المكتبة الإسلامية فجانب الأحكام كثيرة مادته ، ولكن الإيمانيات العبر الموحيات والنداءات الجليات هي التي تنقصنا ، فعسى أن يكون هذا الجهد ملبيا للطلب.
ثالثها: حرصت في هذه الدروس أن أكسوها بجلباب الأدب القشيب وأن أتوجها بتاج الفصاحة الأغر ، سيرا على منهج القران الكريم والسنة المطهرة في جمال العبارة ، وإشراق الألفاظ وروعة الديباجه ، ليكون المطالع بين جدولٍ وخميلةٍ ، وبستان وواحة ، وماءٍ وظلٍّ ، وطلٍّ وندى.
وكـلامُـها الـسحرُ الـحلالُ لـو أنَّـهُ لــم يـجـن قـتـل الـمـسلم iiالـمتحرز
إن طال لم يملُل وإن هي أوجزت ود الــمـحـدَّثُ أنــهـا لـــم iiتُــوجـز
دررٌ تـعـيـشُ الأذنُ فــي iiنـغـماتها بـمـطـرزٍ عـــذبٍ وغـيـر iiمـطـرز
مرحبا بالزائر الكريم
* صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه إذا رأى الهلال قال: ( ربي وربك الله هلالُ خيرٍ ورشدٍ ، اللهم أهله علينا بالسلامة والإسلام والأمن والإيمان ) رواه الترمذي وأحمد وإسحاق في مسنديهما وهو حديث حسن.
- ورمضان أشرفُ الشهور ، وأيامُه أحلى الأيام ، يعاتب الصالحون رمضان لقلة الزيارة ، وطول الغياب ، فيأتي بعد شوقٍ ، ويفد بعد فراق ، فيحييه لسان الحال قائلاً.
مرحباً أهلاً وسهلاً iiبالصيام يـا حـبيباً زارنا في كل iiعام
قـد لـقيناك بـحبٍّ مـفعمٍ iiكـل حبٍّ في سوى المولى iiحرام
فـاقـبل اللهم ربــي iiصـومـناً ثم زدنا من عطاياك الجسام
لا تـعـاقـبـنا فــقــد iiعـاقـبـنـا قـلـقٌ أسـهـرنا جُـنح iiالـظَّلام
- والعجيب أن هذا الضيف يصلح الله بمقدمه القلوب ، ويغفرُ بزيارته الذنوب ، ويستر بوصوله العيوب ، فحيَّ هلا وسهلاً به.
هديه صلى الله عليه وسلم في الصوم
* الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد ..
- يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ( وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثارُ من أنواع العبادات ، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يدارسه القرآن الكريم في رمضان ، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسله ، وكان أجود الناس ، وأجود ما يكون في رمضان (متفق عليه) ، يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن الكريم ، والصلاة والذكر والاعتكاف.
- وكان يخصُّ رمضان من العبادة بما لا يخصُّ غيره به من الشهور ، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة ، وكان ينهى أصحابه عن الوصول ، فيقول له: إنك تواصل ، فيقول: ( لستُ كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يُطعمني ويسقيني ) رواه البخاري ومسلم.
- والله عز وجل رسوله عند هذا الوصال بلطائف المعارف ، ودر الحكم وفيض أنوار الرسالة ، لا أنه طعام وشراب حقيقة ، إذ لو كان كذلك لما كان عليه الصلاة والسلام صائماً.
- فلما قرّت عينه عليه الصلاة والسلام بمعبوده ، وانشرح صدره بمقصوده وتنعم باله بذكر مولاه ، وصلح حاله بالقرب مِن ربّه نسي الطعام والشراب كما قال الأول:
فـزادُ الـرُّوح أرواحُ iiالمعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
فـليس يُـضيرك الإفتارُ iiشيئاً إذا مـا أنـت ربـك قـد iiعرفتا
- والرسول صلى الله عليه وسلم أذكر الذاكرين وأعبدُ العابدين ، جعل شهر رمضان موسماً للعبادة ، وزمنا للذكر والتلاوة. ليله صلى الله عليه وسلم قيام يناجي مولاه ، ويضرع إلى ربه يسأله العون والسداد والفتح الرشاد، يقرأ بالسور الطوال ، ويطيل الركوع والسجود ، شأن النهم الذي لا يشبع من العبادة ، جعل من قيامه الليل زادا وعتادا ، وقوة وطاقة. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ﴾ المزمل:1. ﴿ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ المزمل:2. وقال تعالى: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ﴾ الاسراء:79.
- ونهاره عليه الصلاة والسلام دعوة وجهاد ونصح وتربية ووعظ وفتيا.
* وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل في صوم رمضان إلا برؤية محققة أو بشهادة شاهد واحد ( رواه أبو داود ).
* وكان عليه الصلاة والسلام يحث على السحور ، فقد صح عنه أنه قال: ( تسحروا فان في السحور بركة ) رواه ابن ماجه. لان وقت السحور مبارك ، إذ هو في الثلث الأخير من الليل وقت النزول الإلهي ، ووقت الاستغفار. قال تعالى: ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ الذاريات:18. وقال تعالى: ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ آل عمران: من الآية17.
- ثم إن السحور عون على الصيام والعبادة ، ثم هو صرف للنعمة في عبادة المنعم سبحانه وتعالى.
* وكان عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه أمرا وفعلا يُعجل الإفطار بعد غروب الشمس (رواه البخاري ومسلم ) ، فيفطر على رطب أو تمر أو ماء(رواه أبو داود والترمذي ) لان خالي المعدة أوفق شئ له الحلاوة ، فكان في الرطب والتمر ما يوافق الصائم الجائع.
* وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد ) رواه ابن ماجه. فكان عليه الصلاة والسلام بخيري الدنيا والآخرة.
* وكان يفطر صلى الله عليه وسلم قبل أن يصلي المغرب (رواه أحمد والترمذي وأبو داود).
- وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا اقبل الليل من ها هنا ، وأدبر من ها هنا فقد أفطر الصائم ) رواه البخاري ومسلم.
* وسافر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصام وأفطر ، وخيروا الصحابة في الأمرين(متفق عليه).
* وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم ليتقووا على قتاله (رواه مسلم وأبو داود).
* وخرج صلى الله عليه وسلم لبعض غزواته وسراياه في رمضان بل كانت بدر الكبرى في رمضان ، فنصره الله نصرا ما سمع العالم بمثله ، وأفطر صلى الله عليه وسلم في غزوتين من غزواته ، في رمضان , كما أخبر بذلك عمر رضي الله عنه عند الترمذي وأحمد ، ولم يحدد صلى الله عليه وسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحد ولا صح عنده في ذلك شيء.
* وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يدركه الفجر وهو جنب من أهله ، فيغتسل بعد الفجر ويصوم (رواه البخاري ومسلم) وكان يقبل بعض أزواجه وهو صائم في رمضان (متفق عليه)، وشبه قبلة الصائم بالمضمضة بالماء (أخرجه أبو داود).
* وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إسقاط القضاء عمن أكل وشرب ناسيا ، وأن الله سبحانه هو الذي أطعمه وسقاه (أخرجه الجماعة إلا النسائي).
- والذي صح عنه عليه الصلاة والسلام: ( أن الذي يفطر الصائم: الأكل والشرب والحجامة والقيء ) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي. والقرآن الكريم دل على أن الجماع مفطر كالأكل والشرب.
* واعتكف عليه الصلاة والسلام في العشر الأواخر في رمضان (متفق عليه). فجمع قلبه مع الله تعالى ، وفرغ باله من هموم الدنيا ، وسرح عين قلبه في ملكوت السموات والأرض ، وقلل من التقائه بالناس ، فأكثر من التبتل والابتهال ودعاء ذي الجلال والإكرام. وعكف قلبه على مدارسة الأسماء والصفات ، وعلى مطالعة الآيات البينات ، والتفكر في مخلوقات رب الأرض والسموات ، فلا اله إلا الله كم من معرفة وحصلت له ، وكم من نور ظهر له ، وكم من حقيقة ظفر بها ؟ فهو اعلم الناس بالله ، وأخوف الناس من الله ، وأتقى الناس لله ، وأبلغ الناس توكلا على الله ، وأبذل الناس لنفسه في ذات الله فعليه الصلاة والسلام ما تضوع مسك وفاح ، وما ترنم حمام وناح ، وما شدا بلبل وصاح.
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.